مأساة الجزائر: عقيدة 'أنا حشيشة' إسماعيل القاسمي الحسني 5/14/2010 |
هو سؤال فكري أفضى إلى نقاش عقيم أشبه بتلكم المناقشة البيزنطية لدى المكابرين، دون جدوى منه، لم يختلف في شيء عن سؤال قام منذ قرون لن تكون له إجابة إلى يوم الساعة: أيهما وجد الأول الدجاجة أم البيضة؟ وإن كانت الإجابة عن هذا السؤال لن تزيد العلوم البشرية ذرة من التقدم أو الفهم، والبحث عنها دليل موضوعي على غباء المعني بها، فالسؤال موضوع المقال خلاف ذلك، وهو: من وجد الأول النخبة الفكرية أم الأوضاع؟ هذا السؤال يصلح لأن يكتب على أكبر لافتة في العالم تتصدر مدخل الجزائر، يعزز هذا الرأي الإجماع الذي لم يعد سرا لدى النخب على أن الجزائر شعبا ودولة، معرضة -لا قدر الله - للتفكك والانحلال، نتيجة نظام أثبت عن جدارة إفلاسه منذ فجر حريتها 1962 إلى غاية اليوم، لم يعد هذا التصور حبيس الصالونات والغرف المغلقة، بل أصبح يتصدر يوميا الصحف الجزائرية، يتداوله كتاب الرأي بكل وضوح وصراحة، وتدعمه أخبار الفساد الفاحش الذي ينخر يوميا مقدرات هذا الشعب؛ بل تجاوز الأمر المفكرين إلى صناع القرار أنفسهم، حيث لم نعد نفاجأ بالمناكفات فيما بينهم، وهي تزاحم أخبار الفساد على صفحات الجرائد، يتقاذفون مسؤولية أوضاع البلد وما آلت إليه، وإمعانا في هذا الاتجاه بلغوا حد التخوين وكشف المؤامرات (بما فيها التصفيات الجسدية) التي خاضوها ضد بعضهم البعض، ليقف المواطن الجزائري البسيط من أمثالي أمام أسئلة خطيرة للغاية ولكنها شرعية، تفسر ما انتهى إليه المواطن الجزائري من حالة انفصام بينه وبين الوطن، ولدت بعمليات قيصرية من رحم قوانين تجرم ممارسة حقوقه المشروعة، وتحمي ذات الوقت من ارتكبوا الخيانة العظمى بمعناها الأصلي، من هذه الأسئلة : من هؤلاء الناس وماذا فعلوا بنا؟ وإلى أين يذهب بنا؟ أليس من بيننا نصحاء أكفاء ينقذون السفينة قبل أن نغرق جميعا؟ إني وأنا واحد من هذا الشعب الأبي، لتكاد تذهب نفسي حسرات على ما يعانيه وما يكاد له، وما يزيد الإحساس مرارة، أنه لم تشفع لدى من آل إليهم حكمه من بنيه 1962، تلكم العذابات التي كابدها، والمظالم التي قارعها، لم يكن الاحتلال الفرنسي أولها، فلو عدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا حروبا طاحنة خاضها ضد الاحتلال الاسباني(1492-1792)، ثلاثة قرون ما خلت عشرية من ثورة دفع خلالها دماء زكية وأرواحا طاهرة تعد بعشرات الآلاف، وقبلها صراع دامي ضد أطماع البرتغاليين، وختام هذه الملاحم الموثقة الاحتلال الفرنسي(1830-1962) والكل يعلم مبلغ الثمن الذي دفعه هذا الشعب الذي طحنه الظلم والاستبداد والجبروت؛ لم يلتقط أنفاسه على امتداد خمسة قرون متتالية مضت من عمره، دفاعا عن الحرية والشرف وطلبا للاستقرار، ضريبة من الأرواح والعمر عز في تاريخ البشرية نظيرها؛ وما كاد يتنفس الصعداء حين تسلم قيادته عصبة من بنيه، حتى يفاجأ بإجماع نخبه، كبار المسؤولين السابقين، كبار الكتاب والمفكرين، كبار الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين، وحتى كبار في الجيش ومصالح الأمن وكل رؤساء الحكومات السابقين، والأدهى من تبقى من كبار المجاهدين، كل هؤلاء يبشرونه اليوم علنا بأنه يرزح تحت نظام غارق في الفساد لما يربو عن نصف قرن وساعة الانهيار باتت وشيكة. صحيح أن غياب الدولة وانهيار الاقتصاد وتفكك المجتمع تحت وطأة الظلم والفساد أمر خطير للغاية، وهذا وضع بتنا نعيش ارهاصاته، لكن الأخطر أن تترك قيادة التغيير للشعب وحده،، فيعود بالأمر إلى نقطة الصفر؛ ذلك أن سنن الخلق تأبى دوام الحال، والأمثلة هنا لا حصر لها، ولن أذهب بعيدا فالجزائر ذاتها قام شعبها بثورة التغيير، بعد أن توهم المحتل أن الأمر طاب له، للاستقرار النسبي الذي سبقها على امتداد خمسين عاما، ولكنها ثورة شعبية صرفة، انتهت حقيقة إلى التغيير بمعنى دحر الاحتلال، لكن من استلم السلطة لم يكن من النخبة المؤهلة أصلا لبناء الدولة، بل مجموعة من العسكر تفتقر لأبسط المؤهلات العلمية والمعرفية لهكذا مسؤولية، كان من أبرز أعمالها التصفية الجسدية لكل من يتميز عنها بذلك ولو كان رفيق السلاح، فرئيس الجزائر المستقلة الأول أحمد بن بلة لم يكن أكثر من لاعب كرة قدم وبالكاد يقرأ، سرعان ما انقلب على أحد مفجري الثورة محمد بوضياف الرئيس المغتال 92، ليفر إلى المغرب ثم قائد الأركان الهواري بومدين ينقلب على الرئيس، ليحتل مقعده، و يغيب الرئيس الأول في السجون إلى غاية أوائل الثمانينيات، وتتم تصفية أهم قيادات الثورة محمد شعباني وكذلك أهم العلماء البارزين كالفيلسوف مالك بن نبي ذائع الصيت عالميا ويفر مفدى زكريا شاعر الثورة، والقائمة طويلة، كل هؤلاء سقطوا غيلة لسبب بسيط أن القيادة آلت لمن هم من سواد الشعب وعوام الناس. لهذا توجب الانتباه أنه متى ترك أمر التغيير للشعب وحده عادت قيادته لعوامه، والتي بطبيعتها لن تفعل غير الذي فعلت سابقتها. أعود للنخب، من الضروري فعلا تشريح الوضع على أسس علمية، فهي محطة رئيسية لتشخيص الداء، ولكن التوقف عندها فحسب يعد خيانة، وهي أشبه بفريق أطباء يشخصون العلة ثم يرمون بالمريض لأهله، بحجة أن دورهم ينتهي هنا لأن أهل المصاب لا يقيمون وزنا أو احتراما لفريق الأطباء أو أي حجة أخرى؛ هذه خيانة مشينة تلاحق صاحبها اليوم وغدا؛ بل الواجب هو العمل الملموس لعلاج المريض، من إعطاء الدواء والمتابعة الدقيقة والسهر على حاله مراقبة؛ في لقاءات متعددة حين تطرح أوضاع البلد للنقاش، مع عينات من هذه النخبة لجميع من أشرت إليهم سابقا، وفي مواجهة السؤال: وما العمل؟ يجمع الكل على جواب واحد: 'أنا حشيش طالب يعيش'. هذه عبارة دراجة على لسان العامة يفيد معناها أن قائلها لا يريد أن يكون إلا كالعشبة تريد أن تقضي حياتها ولو بقليل من الماء، في إشارة إلى التقليل من القيمة الذاتية، والاستهانة بامكانية لعب دور فاعل في الإصلاح، والحقيقة أن هذا الرد يترجم وهن العزيمة لا أكثر، وجبنا مهينا لصاحبه، وإلا لو أراد الله أن يخلقه عشبا أو غيره مما خلق لفعل، وإنما خلقه إنسانا عاقلا حمله رسالة أشفق سواه منها، وهي إقامة ميزان العدل وعبادة الله وحده، فكيف ينقلب إليه يوم القيامة بقوله: كنت في الدنيا حشيشا!؟ وفي الختام، إن كانت النخبة تستند في حكمها بفساد الأوضاع على أعمال ملموسة على أرض الواقع، فكيف يستقيم إصلاحها باجترار الكلام دون عمل، المعادلة في غالية الوضوح: إذا كان الفساد بالعمل فلن يكون الإصلاح إلا بالعمل، والأول المدعو لهذا هم النخبة التي وللمفارقة أن معظم أفرادها من جيل الحرية؛ وأما الاعتذار بأنها (النخبة) وليدة أوضاع، وليس عليها ولادة أوضاع مغايرة، لا منطق له ولا حجة، ومراوحة مقام اجترار التوصيف لن يعدو إذن سوى إمعانا في الفساد ذاته، وعاملا مؤثرا في ترسيخ ثقافته لدى العامة، لتنهار قيمة تشخيصه كخطر ويحل محلها التعود، فتزداد مهمة الإصلاح تعقيدا، أو دافعا قويا ليقوم العامة بمبادرة التغيير، وهنا نرجع إلى المربع الأول كما أسلفت ويضيع نصف قرن آخر من عمر الجزائر على يد أبنائها، دون أي اعتداء من طرف خارجي، على النخب أن تتحمل مسؤوليتها كما نظيرتها لدى الشعوب الأخرى، وأقرب مثل لها في مصر، على رأس المطالبين بالتغيير والعاملين عليه في الشارع، هم كبار السياسيين والكتاب والمفكرين وحتى البرلمانيين من المعارضة، وليس العامة من الناس. ' فلاح جزائري ismailelkacimi@gmail.com |